أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن ، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً .
مازلنا نذكر يا إخوان إننا نتناول هذه الأخلاق لنتدرب على التخلق بها, ومن أجل التغيير ..
يقول الإمام ابن الجوزي، إنه كان يحضر درسه في كتاب " صيد الخاطر " آلاف مؤلفة فكان يأتيه الرجل يقول له : لم أنم أمس شوقا للدرس ، فأقول له : ينبغي ألا تنام الليلة القادمة وليست الماضية ، إن كنت استفدت من الدرس.
خلق اليوم هو خلق محبب إلى النفس ، لكنه للأسف خلق غاب عن البشرية ، صارت الأرض مفتقدة لهذا الخلق ، فلما غاب هذا الخلق انتشرت الجريمة ، لما غاب هذا الخلق صارت القنابل النووية تدوي هنا وهناك ، لما غاب هذا الخلق صار الملايين يقتلون في لحظة … إنه خلق الرحمة.
ورغم أنه محبب فعلا للنفوس إلا أنه صار غائبا بين البشرية، وأصبح الأصل هو الظلم أما الرحمة فصارت نادرة في دنيا البشر.
لذلك من المهم جداً أن تجيد هذا الخلق، ولا يكفي أن تتعرف عليه, لأن هذا الخلق إذا طبقته كما ينبغي في الدنيا ضمنت أن ترحم يوم القيامة، حتى لو افتعلته افتعالا حتى تجيده يضمن لك الرحمة يوم القيامة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"
يقول الله تبارك وتعالى: " الراحمون يرحمهم الله "
" ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
إذن ارحموا من تتعاملون معهم في الأرض حتى تنالوا رحمة الله، وأنت أحوج ما تكون لرحمة الله تعالى. إنه خلق النجاة يوم القيامة, إنه المنجي يوم القيامة.
أنت الآن تستطيع أن تعرف إذا كان الله سيعاملك برحمة يوم القيامة أم لا سل نفسك: هل أنا رحيم ؟
وانظر إلى الارتباط الشديد بين رحمتك للناس في الدنيا ورحمة الله بك يوم القيامة. أرأيت الارتباط بين الأخلاق والعبادة؟ بين الأخلاق والدين؟ وإن رحمتك يا رب يوم القيامة بعبدك مرتبطة بمدى تطبيقه لهذا الخلق أم لا ؟
ولنبدأ بالحديث عن :
رحمة الله سبحانه وتعالى
وهو كلام قريب إلى النفوس ، حبيب إلى القلب ، يرقق القلوب ، ويستجمع الملائكة لتحرسنا وتحيطنا بأجنحتها ، فرأيت لكي أحدثك كيف نتراحم بيننا لا بد وأن أحدثك عن رحمة الله سبحانه وتعالى حتى نتصف بصفات الله عز وجل الرحمن الرحيم.
يقول الله تبارك وتعالى: " كتب ربكم على نفسه الرحمة " لا إله إلا الله وهذه الآية موجودة مرتين في سورة واحدة سورة " الأنعام ".
بماذا تشعر عندما تقرأ هذه الآية ؟ إنه الاطمئنان ، لا تخف فالأصل في صفات الله عز وجل " الرحمة " أما الغضب فنتيجة أعمالك ، أنت تخطئ فيغضب لكنها ليست صفة لازمة لله تبارك وتعال.
يقول الله تبارك وتعالى مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة " وإذا سألنا واسعة إلى أي مدى ؟ تأتي آية تالية وتقول " ورحمتي وسعت كل شيء " .
ولذلك من قمة رحمة ربنا في خلقه لليل والنهار ، أنهما لا يأتيان فجأة ، وإنما تدريجيا ، تخيل لو أننا الآن نهارا ًثم فجأة وبدون أن يحدث غروب تدريجي تجد الظلام فجأة ، هل تعلم شكل الاضطرابات العصبية التي من الممكن أن نتعرض لها ؟ والعكس إذا كان هناك ظلام وفجأة أصبح هناك ضوء شديد.
ولذلك من رحمة الله أن يقول عز وجل " والليل إذا عسعس, والنهار إذا تنفس " أي تنفس نفس نفس، برحمة الله عز وجل، أرأيت آثار رحمة الله بنا والتي لا نلاحظها وهي تحدث كل يوم ويراها كل البشر.
وانظر إلى رحمة أخرى في الكون ، يقول الله تبارك وتعالى " وهو الذي ينزل الغيث " الغيث : هو الماء الغزير ، فبدون الماء تفسد الأرض ، فمن رحمته أن ينزل الغيث " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته " انظر إلى قوله : وينشر رحمته ، تشعر أن الله ينزل الغيث يوزع به رحمته على عباده, تحمله الرياح " مبشرات بين يدي رحمته " لا إله إلا الله .
يقول الله تبارك وتعالى: " فانظر إلى آثار رحمة الله، كيف يحيى الأرض بعد موتها " كيف يحي الأرض بعد موتها، تخيل لو أننا فقدنا هذه الرحمة، رحمة نزول المياه من السماء.
يقول الله تبارك وتعالى: " أرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن – السحب – أم نحن المنزلون ؟ لو نشاء لعلناه أجاجاً – مملح – تخيل لو نزل الماء مالحاً ؟ إذن فهي رحمة ونعمة نزل الماء من السماء عذبا .
وانظر إلى رحمة العلاقات الاجتماعية التي أنزلها الله، فهو الذي أودع في قلوب الآباء والأمهات رحمتهم بأولادهم، فكيف أن كل الآباء والأمهات في الكون حتى آباء وأمهات الحيوانات لديهم رحمة بالوليد منذ ولادته.
والرحمة أيضا بين أفراد العائلة, فمن الذي أودع في قلبك حب عمك؟ ومن الذي أودع بذرة أن تحب خالك في قلبك ؟ من أين أتت ؟ تخيل كل هذا وهي رحمة واحدة ، هي التي تسير الأرض منذ أن خلقت ، والله عنده الـ 99 لا إله إلا الله الرحمن الرحيم.
وأنظر كيف ألف بين هذين القلبين ؟ " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة".
وكأن الأصل الذي يبنى عليها البيت هو الرحمة، لكنها هما من يفسدان هذه الرحمة بمعصيتهم، وبعدهما عن طاعة الله وما يرضي الله وهنا تبدأ تنزع الرحمة.
من آثار رحمة الله أيضا بنا: أنه لا يأخذنا بذنوبنا, أليس كذلك ؟ كم مرة نذنب ؟ وكم مرة يتركنا ، ويمهلنا؟
اسمع هذه الآية وفكر في حالك وتذكر العشرين عاماً التي مرت من حياتك:"وربك الغفور ذوالرحمة لويؤاخدهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب.." سورة الكهف.
لو يؤاخذنا بما نفعل ، كان حرمك من أن تقرأ أو تسمع مثل هذا الكلام ، لكنك كنت تعصي أمس وأتاح لك أن تسمع مثل هذا الكلام اليوم, وجعل الملائكة تشهد على حضورك ، ويقول للملائكة الآن : " أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لفلان " أرأيت الرحمة؟
قد تكون أجرمت جرما لو عرف به أبوك وأمك لما سامحاك ليوم القيامة لكن الله رحمك وأعطاك فرصة أخرى لتسمع كلامه اليوم.
يقول الله تبارك وتعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم", " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحداً" – لم ينقي أحد من المعاصي أبدا لولا رحمته – يقول الله تبارك وتعالى : "إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين" (سورة يس, 43,44)
ومن رحمته أيضا أن يسترك بعد المعصية. تخيل أن يسترك بعد المعصية. تخيل أنك كلما عصيت يكتب على بيتك، أو أنك عندما تعصى تخرج منك ريح خبيثة تفضحك، لأن الذنوب لها رائحة ! والله ما استطاع أن يجلس أحد مع أحد من نتن روائح المعاصي. لكن رحمته تستر. لا إله إلا الله .
أحد الرجال سرق فقبضوا عليه وأخذوه إلى سيدنا عمر بن الخطاب: فأخذ يصيح: أقسم بالله إنها أول مرة، فقال عمر: كذبت: إن الله لا يفضح عبدا من أول مرة. سيدنا عمر يعرف قانون الرحمة الذي يعاملنا به الله عز وجل. من رحمته: تيسير التوبة.
يقول الله تبارك وتعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه". (البقرة.37)
عندما عصى سيدنا آدم وأكل من الشجرة, لم يكن يعلم كيف يتوب ؟ إنه نادم من داخله، لكن ماذا يفعل لكي يتوب الله عليه وماذا يقول ؟ لم يكن يعلم. فالآية تقول: " فتلقى آدم من ربه كلمات " إذن ربنا قال له إذا قلت هذه الكلمات سأغفرلك ! لا إله إلا الله. مع أن آدم أخطأ، يلقنه الله كيف يتوب ! سبحان الله . ما هي هذه الكلمات ؟ قال له " قل يا آدم: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين".
ليس العجب في عبد يتذلل ويتودد إلى سيده، لكن العجب كل العجب من سيد يتودد إلى عبده، يتودد إليه برحمته. فيا سبحان الله.
من رحمته: إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وسن الشرائع الإسلامية فالشريعة رحمة من ربنا.
يقول الله تبارك وتعالى:" وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون".( سورة الأنعام, 155)
لذلك يا إخواني: احفظوا هذه الجملة جيدا " إن الشريعة الإسلامية كلها مبنية على الرحمة " حتى تعيشوا أنتم حياة كلها رحمة وهداية.
لذلك إياك وأن تعتقدوا أن فيها ظلم، لكن ربما قال قائل: كيف تقطع يد السارق مثلا ؟ وجلد الزاني و…؟و يعتقد أن الحدود في الشريعة الإسلامية ظالمة. أبدا إنها رحمة بالمجتمع وحتى يصان المجتمع الإسلامي، وأنتم ترون الآن كيف تنتشر الجريمة ومعدلات الاغتصاب والشذوذ و …… إذن فمن رحمة الله إنزال الكتب والرسل.
من رحمة الله أيضا أنه جعل يوم القيامة. تخيل !
اسمع تركيب هذه الآية معي : " كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة" من رحمته أنه يجمعكم يوم القيامة,لماذا ؟ حتى ترد المظالم ، وحتى يأخذ كل من : حرم نفسه من المعاصي ، عانى ليحضر درسا أو يسمع كلام الله, غض بصره وكان يتمنى أن ينظر, ثوابه. وحتى يأخذ الظالم نصيبه من العذاب.
الحمد الله الذي جعل يوم القيامة، تخيلوا أن هناك أناسا يأتون يوم القيامة كالمسافر الذي عاد ولاقى أهله مسروراً. أناس تعبوا في الدنيا، أناس ظلموا وافتريَ عليها في الدنيا، ناس بذلت، صامت، صلت، قامت الليل، تحجبت، غضت بصرها …… طبعا يأتوا فرحين مسرورين يوم القيامة، معهم حق.
أما الفاسق أو العاصي فيأتي يوم القيامة كالسجين ، الهارب من السجن عشرات السنوات وقد قبض عليه . تخيل الفارق الكبير بين الاثنين ؟ لذلك من رحمة الله أن جعل يوماً للقيامة.
من رحمته أيضا : أن خلق المرأة !
نعم، فمن آثار رحمة الله علينا أنه خلق المرأة لجلب العاطفة إلى الرجل ولولا ذلك ما كان يوجد على الأرض من العاطفة والود ما فيها، والدليل على ذلك:
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: عاش آدم في الجنة، فاستوحش – شعر بالوحدة – فخلقت حواء، فقال لها: من أنت ؟ ولم خلقت؟ فقالت : أنا سكن لك، الآية واضحة " ليسكن إليها " أرأيتم العلاقة بين الرجل والمرأة ؟ وكيف كرم الإسلام المرأة ؟ وكيف أن النساء أصبحن شقائق للرجال ؟ وأنه ليس هناك تفرقة بين الرجل والمرأة في الإسلام.
من رحمة الله بنا: أنه أنزلنا الأرض !
ستتعجب بالطبع وتقول لا، فيا ليتنا دخلنا الجنة مباشرة ولم ننزل للأرض و … لكن في الحقيقة نزولنا الأرض رحمة من الله بنا ، فطبيعة النفس البشرية أنها لا ترضى أو لا يروق لها ما تصل إليه بسهولة وبسرعة ، وتمله بعد قليل – ولكن يعجبها الشيء الذي تصل إليه بصعوبة وعناء أليس كذلك ؟
هذا هو الأب يظل يشقى ويكد طوال عشرين سنة لجمع أموال, يشتري بها سيارة يخاف عليها أن تخدش, ويأتي الابن وتصبح قطعاً صغيرة بسبب تصادم بها واستهتاره في القيادة، ويقول للأب بمنتهى البساطة لم أنت غاضب؟ لأنه لم يتعب في شرائها فلا يشعر بقيمتها.
لذلك من رحمة الله . أنت لا بد وأن تنزل إلى الأرض وتشتاق الجنة، واعبد الله 60، 70 عاما وأنت لا تراه، لذلك أكثر الناس التي تستمتع برؤية الله في الجنة من عبدوه بحق في الدنيا، والذين تركوا المعصية في الدنيا من أجل رؤيته في الآخرة. أرأيت رحمة الله هنا؟
من رحمته أيضا عز وجل: تنغيص الدنيا !
وأكيد جميعنا تنغصه الدنيا وليس بنا سليم معافى، وهذا التنغيص وكثرة البلاء والتكدير في الدنيا إنما هو من رحمته حتى لا تركن وترتاح بشدة للدنيا ولكي تشتاق للجنة ، فلا تصبح الدنيا غايتك. إنك تخرج منها الآن وهي مكدرة وفيها مشاكل ونحن نبكي وننوح ، فما بالك لو خرجت منها وأنت مرتاح وهي هنيئة ؟ فمن رحمته بك أنه كدرها عليك لتعرف أنها ليست مستقرك وليست دائمة لك أبداً.
أترى هذه الرحمات العجيبة؟
من رحمته : أن هذه الرحمة عمت البشرية حتى الكافرين فيها .
انظر إلى الرزق, وكيف أنه لا يمنعه عن الكفار. لم يمنع عنهم الهواء. أليست الأرض أرضه والسماء سماؤه؟ لكنه يتركهم يتنفسون، ويشربون ويأكلون .. سبحان الله إنها رحمة منه .
ولا ننسى سيدنا إبراهيم عندما جاءه شيخ فدعاه إلى الطعام وأوقد سيدنا إبراهيم النار لنضج الطعام ، فجاء الشيخ وسجد أمام النار – كان من عبدة النار – فقال له : قم, أتعبد النار ؟ فقام الرجل. وعدل إبراهيم عن إطعامه لأنه من عبدة النار.
فنزل إليه سيدنا جبريل وقال له: يا إبراهيم – يقول لك الله عز وجل – لم تتحمله ساعة وأنا أتحمله منذ ستين عاما ؟ فجرى سيدنا إبراهيم إلى الشيخ وقال له: هلم إلى الطعام، فقال له: لم ؟ قال: عاتبني ربي فيك، فقال الرجل: إله رحيم لا بد وأن يعبد فأسلم !
سيدنا إبراهيم أيضا عندما دعا قال: " وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات – ثم اشترط شرطا – من آمن منهم بالله واليوم الآخر فيكمل الله الآية ويقول – قال: "ومن كفر". وهذا من رحمة الله.